Hero image

من الرياض إلى نيويورك في أقل من ساعة

نوفمبر– ديسمبر | 2025

أكتوبر 26, 2025

تخيَّل هذا المشهد: تصعد على متن مركبة صاروخية في مطار خاص قرب الرياض. تُشغّل المحركات، وفي غضون دقائق، تجد نفسك تدخل الفضاء المظلم. ترى انحناءة الأرض المهيبة تحتكَ وهي تتلألأ بالأزرق والأبيض، ثم تعود سريعًا لتخترق الغلاف الجوي من جديد، هذه المرة نحو الأسفل. وبعد 45 دقيقة فقط من الإقلاع، تلمس قدماك مَدرج مطارٍ قرب نيويورك.

قد يبدو هذا ضربًا من الخيال ومفرطًا في التفاؤل، لكن في عيون المبتكرين الجريئين وروّاد الأعمال الطموحين المقترِحين لهذه الفكرة، هذا المستقبل ليس ممكنًا فحسب، بل في طريقه إلى التحقُّق قريبًا.

لطالما كانت الطائرات أسرع وسيلةٍ لعبور القارات والمحيطات، لكن يشوبها عدد من العيوب. الرحلة المباشرة من الرياض إلى نيويورك تستغرق حوالي 13 ساعة، وإذا أضفت إليها أوقات الانتظار الطويلة في المطارين، والتأخيرات المحتملة، والجلوس الضيّق في مقاعد غير مريحة في طائرات اليوم، فإن السفر الطويل لا يصبح مزعجًا فقط، بل هو عذاب يودُّ كلنا الاستغناء عنه.
إضافة إلى ذلك، يُسهم قطاع الطيران بنحو 2.5% من إجمالي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في العالم. ومع الاتجاه العالمي نحو تقنيات أنظف وأكفأ في السفر والنقل والتجارة والاقتصاد، يزداد الضغط لإعادة التفكير في أساليب التنقل الجوي.

في المقابل، يزداد الطلب على التنقل العالمي السريع. فمجالات الأعمال والاقتصاد والسياحة والدبلوماسية، وحتى الروابط العائلية، باتت تمتد عبر القارّات. وفي عالم فائق الترابط، لم يعُد الزمن مجرد فرصة لكسب المال، بل هو إمكانية للتنمية. إنه يمثِّل الفرق بين صفقات ومشاريع وعلاقات مثمرة وطويلة الأمد وبين خسارات مؤسفة.
كل هذا جعل من المستحسن التفكير في السفر عبر الفضاء، ونتيجة الأمر ستكون مشابهة لإحلال قطارٍ فائق السرعة محل السفينة، أو إحلال طائرةٍ للتنقّل بين المدن محل الحافلة، فما كان يستغرق أيامًا قد يستغرق ساعات أو دقائق.

 

كيف ستُنفَّذ الفكرة؟
 صواريخ للسفر السريع حول الأرض


الفكرة بسيطة وثورية: بدلًا من التحليق في الهواء، لماذا لا نسافر عبر الفضاء الخارجي؟

هذا ما يُعرف باسم "السفر تحت المداري من نقطة إلى نقطة" (suborbital point-to-point travel). إذ تُطلَق المركبة بشكل شبه عمودي، فتخرج من الجزء الكثيف للغلاف الجوي، وتسير في قوس باليستي في الفضاء، ثم تعود لتدخل الغلاف الجوي بمساعدة الجاذبية، وتهبط في جهة بعيدة على الأرض.

تستند هذه التقنية إلى المبادئ الفيزيائية نفسها التي تعتمد عليها الصواريخ البالستية العابرة للقارات (من دون الرؤوس الحربية المتفجرة طبعًا)، ولكن بإعادة تخيلها وتصميمها للاستخدام التجاري السلمي. بدلًا من التحليق في مسار مُنحنٍ عبر الغلاف الجوي، تسلك طريقًا بمحاذاة حافة الفضاء، وتعتمد على الجاذبية في جزء من المهمة.

وبهذا، سيكون زمن الرحلة قصيرًا بشكل مذهل: من دبي إلى لوس أنجلوس أقل من 40 دقيقة، ومن الرياض إلى لندن نحو 30 دقيقة، ومن بكين إلى نيويورك أقل من ساعة، على الأقل وفقًا للخطط المقترحة.

 

من يقف وراء هذا المشروع؟

في طليعة هذا المشروع الثوري نجد شركة "سبيس - إكس" (SpaceX)، الشركة الخاصة التي غيّرت قواعد اللعبة في عالم الفضاء. اشتُهرت هذه الشركة بإطلاقها الأقمار الاصطناعية بالعشرات، ونقل روّاد الفضاء إلى محطة الفضاء الدولية، وقريبًا إلى القمر والمريخ، ولكن من بين أهدافها الجريئة أيضًا استخدام نظامها الصاروخي العملاق "ستارشيب" (Starship) ليس للوصول إلى المريخ فقط، بل أيضًا للتنقل على كوكب الأرض نفسه.
"ستارشيب" مُصمَّم ليكون قابلًا لإعادة الاستخدام بالكامل، فهو يُقلع ويهبط عموديًّا، وخصائصه تجعله مثاليًّا (مبدئيًّا) للدورات السريعة (رحلات ذهاب - إياب متتالية)، وبتكاليف منخفضة لكل رحلة عند نضج التقنية. وتطمح الشركة إلى جعل "ستارشيب" هو "كونكورد" العصر الجديد، لكنه أسرع بعشر مرَّات.

وهناك شركات كبرى أخرى تتزاحم أيضًا في هذا السباق، مثل: بلو أوريجن (Blue Origin) التي أسَّسها جيف بيزوس، صاحب أمازون، وفيرجن جالاكتيك (Virgin Galactic) بقيادة ريتشارد برانسون. وقد أجرت كلتاهما رحلات سياحية تحت مدارية. صحيح أن تركيزهما الحالي ينصبُّ على رحلات الفضاء الترفيهية، إلا أن التقنية نفسها قابلة للتطوير نحو التنقل الفضائي بين المدن الكبرى.

وفي الوقت نفسه، تدرس شركاتٌ ناشئة ووكالاتُ فضاءٍ وطنية حول العالم الجوانبَ التقنية والاقتصادية والأمنية للسفر الفضائي السريع، غالبًا بالتعاون مع جهات عسكرية وشركات صناعة طيران متقدمة.

 

تحديات تقنية حقيقية

تنفيذ هذه الرؤية تشوبها تعقيدات عديدة، فهي لا تتم بتوجيه صاروخ نحو مدينة ما والضغط على زر الانطلاق.
أولًا، هناك مسألة السلامة. فالصواريخ أقل موثوقية من الطائرات بكثير، والدخول مرة أخرى إلى الغلاف الجوي يُعرِّض الركاب لدرجات حرارة عالية للغاية، وإلى قوًى هائلة. يجب أن تكون سلامة المسافرين في كل مرحلة من الرحلة مسألةً أساس.

ثانيًا، هناك مسألة الراحة. فالإقلاع والهبوط يُعرِّضان الركاب لقوى تسارع عالية (G-forces)، قد تصل إلى خمسة أضعاف قوة الجاذبية (الثقل). وروّاد الفضاء، على عكس المسافرين، يتدربون على ذلك قبل إرسالهم على متن الصواريخ. تخيَّل أن تكون ملتصقًا بمقعدك عند إطلاق الصاروخ كما يحدث في القطارات السريعة في حدائق التسلية، ولكن بشدّةٍ أكبر. ويعمل المهندسون على تقنيات لتقليل هذه القوى أو تخفيف أثرها بالركاب.
وهناك مسائل أخرى عويصة، مثل: العزل الحراري، ودقة الملاحة، وسلامة الهبوط. فأي خطأ صغير في زاوية الدخول إلى الغلاف الجوي قد يكون كارثيًّا. كما يجب أن تكون مواقع الهبوط قريبة بما يكفي من المدن لتكون عملية، ولكن أيضًا بعيدة بما فيه الكفاية لتفادي الضوضاء والمخاطر التنظيمية.

ولا ننسَ أن إطلاق الصواريخ، حتى القابلة لإعادة الاستخدام، ما زال مُكلفًا جدًّا.

 

الأثر البيئي: أفضل من الطيران التقليدي؟ أم أسوأ؟

قد يبدو للوهلة الأولى أن إطلاق الصواريخ ليس صديقًا للبيئة. فالدفع القوي والوقود المتخصص يُطلِقان طاقة وغازات بكميات كبيرة. لكن إذا صُمِّمت هذه المركبات بعناية، يمكن أن تتفوق على الطائرات من حيث الأثر البيئي، على الأقل إذا حسبناها للفرد الواحد.

مثلًا، يستخدم الصاروخ "ستارشيب" خليطًا من الميثان والأكسجين السائلَين، وهما أنظف من وقود الطائرات التقليدي، ويمكن إنتاجهما من مصادر متجددة. ويمكن تشبيه الأمر بإحلال أدوات بلاستيكية قابلة للغسل وإعادة الاستخدام محل الأدوات التي تُستخدم مرَّةً ثم تُرمى؛ فإذا أُعيد استخدامها مرَّات عديدة يصبح الأثر البيئي لكل استخدام ضئيلًا.
ومع ذلك، تبقى هناك مخاوف بيئية حقيقية. فالانبعاثات في طبقات الجو العليا لها تأثيرات مناخية مختلفة. وضجيج الإطلاقات، خصوصًا قرب المدن، سيكون مزعجًا. كما أن الرحلات المتكررة قد تُسهم في ازدحام الفضاء، أو تؤثر في أنظمة الملاحة الجوية الحالية.

والمحصّلة أن جدوى المشروع كله تعتمد على كيفية تطوير التكنولوجيا، ومدى استخدامها؛ هل ستكون رحلات نادرة؟ أم مطلوبة ومتكررة؟

 

الآثار الاجتماعية والاقتصادية

إذا نجحت هذه التقنية، فإنها قد تُحدث ثورة في عالم الأعمال الدولية. يمكن للمديرين التنفيذيين حضور اجتماعات في قارات أخرى والعودة في اليوم نفسه. وقد تتمكّن الحكومات من الاستجابة للأزمات بنحوٍ أسرع. أمَّا السياحة، فقد تشهد قفزة ضخمة إذا انخفضت التكاليف.

لكن في البداية، سيُحتكر السفر عبر الفضاء على الأغنياء، كما كانت تذاكر الطائرات في بداياتها. إذ حين بدأت شركات الطيران في الثلاثينيات، كانت تكلفة التذكرة توازي سعر سيارة جديدة.
السؤال المحوري هو: هل ستُتاح هذه التقنية للجمهور العام يومًا ما، كما حدث مع الطيران التجاري في القرن العشرين؟ أم ستبقى حكرًا على الأثرياء والخاصة؟ وكيف سيُعيد ذلك تشكيل تصوُّرنا للعالم والحدود (الفضائية والزمنية) وللهويات الوطنية؟ وكيف سيتمكن العالم من وضع الأطر القانونية الجديدة اللازمة التي تجمع بين قوانين الفضاء والطيران الدولي لهذا النوع من التنقل؟

 

فكرة السفر بالصواريخ عبر الفضاء جريئة، ولكنها ليست أكثر جرأةً من حُلم الطيران كما كان قبل قرن

متى يمكن أن يحدث هذا؟

لا يزال الجدول الزمني غير محدد. فبينما تشير تقديرات "سبيس - أكس" إلى إمكانية بدء رحلات "ستارشيب" من مدينة إلى أخرى في أواخر العقد الحالي، فإن التقديرات الواقعية لتحويل ذلك إلى خدمات تجارية منظمة ومرخصة تُراوح بين عشر سنوات إلى عشرين سنة إضافية.

وكما كان الحال مع بدايات الطيران، تبدو مركبات اليوم بدائية، لكنها تمهّد الطريق لشبكات النقل العالمي في الغد. فالتقدُّم مستمر؛ وقد أجرت "سبيس - أكس" اختبارات عديدة على ارتفاعات عُليا، وأطلقت أولى رحلاتها المدارية الكاملة. وكل اختبار يُقرّب المهندسين من تحقيق أهدافهم في إعادة الاستخدام، وتحقيق الحماية الحرارية، وتقليل التكلفة.

إن رؤية هذا المشروع جريئة، لكنها ليست أكثر جرأةً من حُلم الطيران نفسه قبل قرن. ففي أوائل القرن العشرين، كان عبور المحيطات في ساعات يُعدُّ ضربًا من الخيال. واليوم هو أمر روتيني. قد يسير السفر الفضائي تحت المداري على الخط نفسه: من الدهشة إلى الاعتياد، ومن الرفاهية إلى الضرورة. وسواء أتحقق ذلك خلال عشر سنوات أم ثلاثين سنة، فالإمكانات هائلة، وتستحق الانتظار.