
“
التغيرات الجيوسياسية في العالم أثَّرت بالديمغرافيا الأوروبية في النصف الثاني من القرن العشرين، وانعكس ذلك بدوره على خارطة الكتابة
في دراسةٍ أشرفت عليها دار النشر البريطانية "بنغوين" عام 2017م، تبيَّن أن 1% فقط من تلاميذ المدارس في بريطانيا قد قرؤوا في كل أعوام دراستهم عملًا أدبيًّا لكاتب أو كاتبة من عِرق غير الأبيض. وأوضح 82% من الشباب الذين ملؤوا الاستبانة أنهم لم يدرسوا أي كتاب لمؤلف من أصول إفريقية أو آسيوية أو أي عِرق آخر. وتقول الكاتبة الإنجليزية ذات الأصول الآسيوية، بيني كارا، في كتابها "المنهج الدراسي المتنوع" (2024م): "في مراهقتي عشت لحظة إدراك. أنا بلا مكان في أدب إنجلترا. لم أرَ نفسي في أيٍّ من القصص التي نقرؤها. بصفتي طالبة أدب، كنت في أمس الحاجة إلى أن أجد لنفسي مكانًا". ولو أخذنا في الاعتبار أن عدد التلاميذ الملوّنين في كل مدارس بريطانيا يصل إلى 34.4% أي الثلث تقريبًا، لأصبحت المفارقة حادّة ومثيرة للأسئلة.
على النقيض من واقع التعليم، يرى المهتمون بالقراءة والنقد الراصدون للواقع الثقافي الإنجليزي صورة مختلفة؛ فلا شكَّ أن التغيرات الجيوسياسية في العالم أثّرت بالديمغرافيا الأوروبية في النصف الثاني من القرن العشرين. وقد انعكس ذلك بدوره على خارطة الكتابة التي أصبحت تضم أدباء من أعراق شتَّى. فهم من ناحية أبناء المجتمع الإنجليزي، يتكلمون لغته ويعيشون ثقافته، لكنهم أيضًا أبناء أوطان وثقافات كانت في أغلبها مستعمَرة من القارة البيضاء. ويُثير هذا الواقع الجديد والمتغير تساؤلات لدى نقَّاد ما بعد الكولونيالية، من بينها سؤال الهوية واللغة. فالمستعمَر سابقًا ليس في حوزته إلا لغة من استعمر بلده ليعبِّر عن هوية مغايرة للهوية البيضاء.

على اليمين الكاتبة والروائية كانديس كارتي، وعلى اليسار الكاتب والروائي حنيف قريشي
العرق.. الهوية.. التقاطعية
في رواية بعنوان "كويني" (2019م)، تتبع كانديس كارتي وليامز حياة امرأة إنجليزية من أصول جامايكية تعيش في لندن. يفتح النص بابًا على البطلة "كويني" وهي تخوض غمار الحياة: المهنة، والصداقات، والعلاقات الاجتماعية، في إطار من الكوميديا السوداء. وإضافة إلى ثيمتيّ العنصرية والتمييز، تتناول الرواية أيضًا صراعات البطلة الشخصية مع المرض العقلي، وهو ما جعل للحكاية صدًى عند كثير من القرَّاء. ففي أحد المشاهد تصيح "كويني" وقلبها ينبض بعنف: "هذا ليس ارتقاءً بحياة السود فوق منصة عالية، حتى إني لا أعرف ما يعنيه هذا. وإنما حياة السود الآن، كما هي في السابق، لم تكن ذات أهمية، ولا بدَّ أن تكون كذلك".
في رواية "بوذا الضواحي" (1990م)، يكتب حنيف قريشي على لسان بطل الرواية "كريم": "إنهم يعتبرونني في الغالب مزيجًا عجيبًا لشخص إنجليزي. سلالة جديدة انبثقت من تاريخين". تشترك الشخصية الرئيسة مع الروائي في كونهما من أصول باكستانية إنجليزية. يهرب "كريم" من حياة الضواحي الضيقة إلى لندن وعالم المسرح في تلك المدينة، متحديًا الكثير من الفروقات العرقية والطبقية في سبعينيات القرن العشرين.

الكاتبة والقاصة بولو بابالولا
لون أدبي يتبلور تدريجيًّا
قد يظن القارئ أن الأصوات الملوّنة قد وجدت لنفسها مكانًا في الأدب الإنجليزي قرب نهاية القرن العشرين، لكن الأمر ليس كذلك. فقد ظلَّت كتابات غير البيض تتبلور تدريجيًّا منذ بدايات القرن العشرين، لكنها أخذت شكل الظاهرة في منتصفه.
ففي عام 1956م، نشر سام سلفون روايته "قاطنو لندن الذين يعانون من الوحدة"، يُصوِّر فيها تجارب مهاجري جزر الهند الغربية في مدينة لندن. يعتمد السَّرد على مشاهد قصيرة متتابعة، كأنها قصص قصيرة مكتوبة بلغة مُوحية تعيد إلى الحياة صور النضال والمقاومة داخل المجتمع الكاريبي القاطن في لندن.
وفي مجموعة قصصية بديعة بعنوان "الحب بالألوان: أساطير من حول العالم" (2020م)، تقدّم بولو بابالولا مجموعة من قصص الحُبِّ التي تغزل السحري في التفاصيل اليومية للشخصيات. تحتفي كل حكاية من هذه الحكايات بصور الحُبِّ المتعددة، مُظهرةً الحب المشتركَ الأكبر بين البشر. والمميّز لهذه القصص هو الكيفية التي تغزل بها الكاتبة حياة أبطالها من الشخصيات السوداء المعاصرة مع خيوطٍ بعضها يأتي من التاريخ، وبعضها الآخر من الأساطير الإغريقية والحكايات الشعبية النيجيرية.
أما برناردين إيفاريستو فهي من الأسماء التي أفسحت لنفسها مكانًا مميزًا منذ أن بدأت مسيرتها الأدبية في منتصف التسعينيات من القرن العشرين، باعتمادها طريقة سردية متفردة يمتزج فيها النثر والشعر. فتتتبع في روايتها "بنت وامرأة وآخر" (2019م)، الحياة المتقاطعة والمتداخلة لاثنتي عشرة شخصية، معظمهم من أصول إفريقية ومن جزر الكاريبي، وذلك عبر قرنٍ كاملٍ.
“
في سيرة ذاتية بعنوان "إنجليزية (تقريبًا): عن العرق والهوية والانتماء"، استكشاف لمعنى أن يكون المرء أسود وإنجليزيًا
معنى أن يكون المرء إنجليزيًّا أسود
في سيرة ذاتية بعنوان "إنجليزية (تقريبًا): عن العرق والهوية والانتماء" (2018م)، تستكشف أفوا هرش معنى أن يكون المرء أسود وإنجليزيًا. وتعتمد الكاتبة على خبرتها الشخصية؛ إذ إنها صحفية ومحامية، وتنحدر من أصول غانيّة وإنجليزية. فتدخل بنا إلى عمق التعقيدات للعرق والهوية والانتماء في المجتمع الإنجليزي المعاصر، من خلال لغةٍ وسردٍ لافِتَين، تتحدَّى القارئ (الأبيض) وتواجهه بحقائق غير مريحة عن المجتمع وعن نفسه. ويتقصَّى الكتاب السياقات التاريخية وإشكاليات العرق، ويقدّم نقاشًا مركّبًا حول تقاطعات العرق والطبقة الاجتماعية والثقافة.
إعادة التطلع إلى "لون" التاريخ الإنجليزي
تستكشف هرش رحلتها الشخصية مع الهوية منذ الطفولة التي عاشتها في ضاحية إنجليزية بيضاء، وصولًا إلى حياتها المهنية. وهكذا يمزج الكتاب بين الذاتي والمجتمعي، وبين التاريخ الشخصي للكاتبة، والتاريخ الواسع لسردية الإنجليز السود، مُلقيًا بضوء كاشف على معاناتهم، وما ينتج عنها من انعدام التكافؤ. ومن أجل هذا الغرض، تُعيد هرش قراءة التاريخ من منظور ملوّن. تقول: "ليس لإنجلترا (تاريخ أبيض)، إن التاريخ الإنجليزي هو قصة أعراق متعددة ومتداخلة لبلد يعتمد على التجارة والتأثير الثقافي والهجرة من إفريقيا والهند ووسط آسيا وشرقها، ومناطق أخرى وقارات يسكنها غير البيض. وقبل كل هذا، كانت إنجلترا عُرضة لموجات متلاحقة من غزوات قبائل أوروبية لا تدخل في مفهوم (العِرق الأبيض)، لو كان لهذا المفهوم وجود في ذلك الوقت".
أمَّا كتاب "لماذا لم أعد أتحدث عن العرق مع البيض" (2017م)، للكاتبة ريني إدو لودج، فقد بدأ مُدوَّنةً سرعان ما تطوَّرت إلى كتاب يستكشف تقاطعية العرق والطبقة الاجتماعية، ويزاوج بين السياق التاريخي والتجارب المعيشة المعاصرة. وتتميز لغة لودج بالبلاغة وبقدر كبير من الصراحة والوضوح (ولعل ذلك يرجع إلى أنها كتابة مدونات)؛ فهي تكثّف المعنى في جمل قصيرة، فتقول: "أن تكون أبيض اللون يعني أنك إنسان. أن تكون أبيض يعني أنك عالمي. أعرف هذا جيدًا لأنني لست كذلك". وقد أثار الكتاب نقاشات مهمة حول الظلم البنيوي المتعلق بالعرق في المجتمع الإنجليزي.

على اليمين الروائي هشام مطر وعلى اليسار الكاتبة أفوا هرش
سرديات أبناء الجنوب
بمحاذاة التيار الأول (الأضخم حجمًا) المرتكز على العرق والانتماء والهوية والتقاطعية، هناك تيار آخر يضم كتابات لا ترتكز على هذه الثيمات، ولا تتخذ من إنجلترا موقعًا جغرافيًّا لأحداثها؛ لأنها تدور في أماكن أخرى، ألا وهي سرديات أبناء الجنوب العالمي.
ففي رواية مثل "مدينة غير حقيقية" (1999م)، يكتب طوني حنانيا (لبناني مُقيم في لندن) عن الخراب الذي حلّ ببيروت بعد الحرب الأهلية. وإلى التيار نفسه تنتمي كتابات الكاتب البريطاني-الليبي هشام مطر، وتحديدًا كتاب "العودة" (2016م)، الحاصل على جائزة البوكر الإنجليزية فرع السير الذاتية عام 2017م، من بين مجموعة كبيرة من الجوائز الأخرى. يتتبع هشام مطر في هذه الرواية الأحوال في ليبيا عام 2012م؛ أي بعد انهيار نظام معمر القذافي. والغربة في هذه الرواية لا علاقة لها بالمجتمع الإنجليزي، بل هي غربة في العالم الكبير، يغذّي جذوتها البحث عن الأب في واقع أشد وطأة من الكوابيس.
سوق النشر لا تزال بيضاء
على ما في الأدب الإنجليزي الملوّن من ثراء فني، وتنوّعٍ في الموضوعات والثيمات، لا تزال سوق النشر "بيضاء" إلى حدٍّ بعيد؛ فمن بين آلاف الكتب المنشورة عام 2016م، لم يُنشر سوى 100 كتاب فقط لكُتَّاب ليسوا من العرق الأبيض. وفي نطاق سوق القراءة، أوضحت استبانة أجرتها الجمعية الملكية للأدب عام 2017م، أن من بين 400 كاتب يعرفهم جمهور القرَّاء في بريطانيا كان نصيب الملوّنين بينهم 7% فقط. لكن السرديات الملوّنة تتواتر وتتحدّى عالم النشر الأبيض وصورة إنجلترا عن نفسها. ليس ثمَّة طريق آخر.